الأزمة في الاقتصاد الحقيقي: أربع مقاربات ماركسية لأزمة عام 2008 الاقتصادية العالمية
مقدمةيستعرض هذا البحث بعض المقاربات الماركسية التي تفسر أزمة عام 2008 الاقتصادية العالمية، وتحديدا تلك التي تركز على قطاعات الاقتصاد الحقيقي، ويحصرها البحث في أربع مقاربات، أولها مقاربة الاقتصادي الأمريكي ديفيد كوتز المستندة إلى دور فائض الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي الناتج عن الفقاعة المالية، وثانيها مقاربة الاقتصاديين الفرنسيين جيرار دومينيل ودومينيك ليفي التي تفسر الأزمة بكونها أزمة عامة للنيوليبرالية، وثالثها مقاربة المؤرخ الأمريكي روبرت برينر القائمة على فائض الاستثمار الناتج عن احتدام المنافسة، وأما آخر مقاربة فتخص عالم الاجتماع الأمريكي جون بيلامي فوستر وتستند إلى دور رأس المال العالمي المالي – الاحتكاري كسبب لأزمة عام 2008 الاقتصادية العالمية.وسيتم استعراض المقاربات الأربع كل على حدة، ثم تتم مقارنتها وفق ثلاثة محاور، أولا دور القرارات الاستثمارية وتكوّن الفقاعات المالية، وثانيا الدور الذي يلعبه عامل المنافسة، وثالثا دور الصراع الطبقي، وعلى ضوء هذه المقارنة يختبر البحث إمكانية التوفيق بين هذه المقاربات الأربع، لكن النتيجة تكون صعوبة إيجاد مثل هذا التوفيق بين المقاربات الأربع، والسبب الرئيس في ذلك هو الاختلاف الكبير حول دور عامل المنافسة في مقاربتي برينر وفوستر، وعلى الرغم من ذلك فإن هناك اتفاقا على أهمية القرارات الاستثمارية وتكوّن الفقاعات المالية في خلق الأزمة، كما أن هناك اتفاقا على أهمية دور الصراع الطبقي في الدفع باتجاه أحداث معينة هي التي أدت لأزمة عام 2008 الاقتصادية العالمية. مقاربة البحثوقبل الشروع في التفاصيل من المهم ذكر بعض الملاحظات، أولها أن هذا البحث يقدم عرضا لبعض المقاربات النظرية ومقارنة بينها، مع الإشارة أحيانا لبعض جوانب اللبس وغياب الاتساق بين عناصر المقاربة الواحدة، لكن البحث لا يهدف لتقديم نقد محكم لكل منها على حدة، فيقوم مبدأ هذ البحث على القبول العام لهذه المقاربات كخيار نظري ضمن خيارات عديدة. وثانيا فإن هذا البحث يعي تعارض المصالح بين الفئات الاجتماعية المختلفة في المجتمع، وهو ما تصيغه الماركسية عادة بلغة الصراع الطبقي، وهذا الوعي بالصراع الطبقي مفيد لأنه يساعد في التمييز بين النظريات الناشئة من التراث الماركسي([2]) من جهة، وما عداها من نظريات نيوكلاسيكية أو كينزية أو غيرها. بالإضافة لخاصية الوعي بالصراع الطبقي فإن لهذا البحث خاصية ثالثة مهمة، وهي التركيز على قطاعات الاقتصاد الحقيقي([3]) وليس القطاع المالي، ولهذا التركيز مبرران على الأقل من الناحية الماركسية، أولهما يتعلق بقضية التناقضات الجذرية في الرأسمالية، والآخر متعلق بنظرية القيمة الماركسية والقائمة على العمل.فمن حيث قضية التناقضات الجذرية في الرأسمالية، فإنها تقود الماركسيين للتركيز على قطاعات الاقتصاد الحقيقي في الاقتصاد لأنهم يريدون أن يثبتوا أن أزمة عام 2008 الاقتصادية العالمية لم يكن سببها فقط النظام المالي في الولايات المتحدة أو حتى العالم، والذي قد تكون قوانين حركته منفصلة عن قطاعات الاقتصاد الحقيقي بدرجة كبيرة، بل على العكس يريدون الزعم بأن النظام المالي الهش الذي تشكل في الثلاثين عاما السابقة على الأزمة كان بسبب الأوضاع التي عاشها الاقتصاد الحقيقي في تلك الفترة، وهذا لا يعني أن الماركسيين يزعمون أن القطاع المالي مرأة للاقتصاد الحقيقي، من حيث هي رؤية شبيهة بالرؤية التبسيطية للعلاقة بين البنية التحتية والفوقية في المجتمع، لكن مجمل قولهم أنه لا يمكن فهم حركة القطاع المالي دون فهم حركة الاقتصاد الحقيقي، بحيث يكون الاستنتاج أن الأزمة أزمة اقتصادية وليست مالية فحسب، وهذا على العكس مثلا من مقاربات أخرى لا تأتي من التراث الماركسي، مثل مقاربة الاقتصادي الأمريكي هايمن مينسكي والتي تقوم على تفسير أزمة عام 2008 بالتركيز على العلاقات الداخلية في القطاع المالي دون موقع مركزي للاقتصاد الحقيقي([4]).أما فيما يخص نظرية القيمة الماركسية، فإنها تدفع باتجاه التركيز على قطاعات الاقتصاد الحقيقي لأنها تقوم على الزعم الماركسي التقليدي بأن مصدر قيمة السلع في الرأسمالية هو العمل المنتج المبذول في إنتاج السلع التي يتم بيعها، ومن غير الواضح في هذه النظرية ما إذا كان القطاع المالي قطاعا يُبذل فيه عمل منتج([5])، فمثلا بعض المنتجات المالية مثل الأوراق المالية المدعومة بالأصول asset backed securities والمشتقات derivatives افتُضح الجوهر الفارغ لكثير منها خلال الأزمة، فتبدو هذه المنتجات إعادة تدوير لسلع سبق إنتاجها في الاقتصاد الحقيقي، ويبدو القطاع المالي غير منتج من هذه الزاوية على الأقل، بل إن بعض الدوافع لاستخدام مفهوم “الاقتصاد الحقيقي” أصلا تتعلق بمحاولة تمييز القطاع المالي عن جميع القطاعات الأخرى في الاقتصاد، على أي حال فإن الفكرة الأساسية هنا هي أن نظرية القيمة الماركسية تقود للقناعة بأنه لا يمكن فهم حركة الرأسمالية بشكل جيد دون فهم عملية إنتاج القيمة، وبما أن القطاع المالي يبدو غير منتج للقيمة فإن تحليله حصريا لا يقدم تفسيرا كافيا لتطور الرأسمالية، وهذا لا يعني أن القطاع المالي غير مهم بالنسبة للماركسية، وهو ما يشرحه كروتي([6]).أولعل أهم ما يميز هذا البحث عن غيره من الاستعراضات القيّمة للمقاربات الماركسية لأزمة عام 2008 هو التركيز على قطاعات الاقتصاد الحقيقي، فيأخذ أورهانغازي([7])مثلا على عاتقه استعراض العلاقة بين القطاع المالي والاقتصاد الحقيقي على نطاق جميع النظريات غير الأرثوذوكسية Heterodox وليس الماركسية فقط([8])، أما باسو وفاسودوفان([9])فيستخدمان المقاربات الماركسية المختلفة كأساس للاختبار البياني للمقاييس المختلفة لمعدل الربح في الاقتصاد الأمريكي، كذلك يقدم دومينيل وليفي([10]) مقارنة بيانية بين مقاربات ماركسية مختلفة للأزمة، وتمثل جميع هذه الأبحاث مساهمات مهمة في فهم الاختلافات بين المقاربات الماركسية وغيرها من المقاربات غير الأرثوذوكسية، وقد استفاد منها هذا البحث، لكن الهدف هنا أكثر تواضعا ويتلخص في دراسة أربع مقاربات، وليس جميعا المقاربات، والماركسية منها فقط، مع التركيز على الاقتصاد الحقيقي، وذلك من ناحية نظرية وليست بيانية.ومن المهم الإشارة إلى مقاربات ماركسية مهمة لا يتم التطرق لها في هذا البحث لأنها لا تقع ضمن نطاقه، وهذه تشمل مقاربة لابافيستاس([11]) التي ترى أن عملية اختراق القطاع المالي للاقتصاد ككل وهيمنته عليه financialization أدت لفصل العلاقة السببية المباشرة بين الاقتصاد الحقيقي والقطاع المالي، وأن الأخير قد بات أكثر استقلالا عن ذي قبل، ويقدّر هذا البحث أن مثل هذه المقاربات خارجة عن نطاقه المرتكز على الاقتصاد الحقيقي، وهذا لا يعني طبعا أن تلك المقاربة خاطئة. من جهة أخرى فإن شيخ([12]) يقدم مقاربة للأزمة تركز على الدور المحدد لانخفاض معدل الربح على مستوى المؤسسات في خلق الأزمة، مع تركيز على دور معدل الفائدة في عملية التراكم، لكنه لا يقدم تفسيرا متكاملا للأزمة كما المقاربات المشمولة في هذا البحث، ومثلها مقاربة وولف([13]) التي لا تقدم تفسيرا متكاملا للأزمة بقدر ما تصيغ خطابا ماركسيا للعامة حول أسباب الأزمة. وتبقى أخيرا بعض المقاربات التي صدرت مؤخرا أو لا تزال في طور الإصدار، ولم يتم ضمها هنا بسبب تأخر صدورها مقارنة مع تاريخ الكتابة هنا.وبعد هذه الملاحظات العامة حول نطاق البحث ومقاربته، صار من المناسب الولوج في المقاربات الأربع موضوع البحث.فائض الاستثمار الناتج عن الفقاعة[14]يمكن القول أن مقاربة فائض الاستثمار لصاحبها الاقتصادي الأمريكي ديفيد كوتز هي أكثر المقاربات ارتباطا مباشرا بقطاعات الاقتصاد الحقيقي في أزمة عام 2008، حيث أنها صيغت تحديدا لتفسير تلك الأزمة، ويمكن تلخيص المقاربة كالتالي بالاقتباس من صاحبها: “فائض الاستثمار هي نزعة نحو الأزمة مفادها إنتاج كمية فائضة من رأس المال قياسا على الطلب في الاقتصاد ككل، مما يؤدي لانخفاض معدل استخدام الطاقة الإنتاجية capacity utilization مما يخفض بدوره معدل الربح”([15])، وعلى أرض الواقع فإن هذه النزعة نحو الأزمة لا تتحقق إلا عندما يظهر الانخفاض في معدل استخدام الطاقة الإنتاجية في السوق ويتشكل توقع باستمرار هذا الانخفاض، فذلك ما يجذب معدل الربح نحو الانخفاض، وبالتالي يسبب أزمة في الاقتصاد الحقيقي، وإحدى ركائز هذه النزعة نحو الأزمة هي حقيقة وجود كمية كبيرة نسبيا من رأس المال في الاقتصاد على هيئة رأس مال ثابت fixed capital (مبان مثلا) يظل في تلك الهيئة لعدة دورات من الإنتاج، من هنا يمكن لفائض الاستثمار في رأس المال الثابت أن يسبب أزمة وليس مجرد عثرة اقتصادية بسيطة، فما إن يتم الاستثمار في رأس المال الثابت حتى يصبح التراجع عن الاستثمار مكلفا جدا، بل قد تكون تكلفة التراجع عن الاستثمار أعلى من قدرة الشركات على التحمل، وعادة ما يتركز رأس المال الثابت هذا في قطاعات مثل البناء والصناعة، لهذا يتركز فيهما خطر فائض الاستثمار.أما الآلية التي تدفع الشركات نحو النزوع باتجاه أزمة فائض الاستثمار على الرغم من عواقبها السيئة عليها فإنها آلية الفقاعات، وتحديدا الفقاعات الكبيرة في الأصول، مثل فقاعة العقار التي تسببت في أزمة عام 2008، ولربط عملية فائض الاستثمار مع آلية الفقاعات يقوم كوتز بالإشارة لثلاث خصائص للنيوليبرالية أو الليبرالية الجديدة)[16](، أولها ازدياد الفجوة بين الأرباح والأجور التي تنعكس على شكل فجوة بين مداخيل الأسر المعتاشة على الدخل من الأرباح مقابل الأسر المعتاشة على الأجور، والخاصية الثانية للنيوليبرالية هي تشكل قطاع مالي ينزع نحو المضاربة والاستثمارات الخطرة، وثالثا – وهي الخاصية ذات الارتباط المباشر والأكبر بهذه المقاربة – هي تكوّن سلسلة من الفقاعات الكبيرة في الأصول([17]).وفي الاقتصاد الأمريكي تحققت هذه الخصائص الثلاث للنيوليبرالية كالتالي: اتساع الفجوة في اقتسام الدخل الوطني لصالح الأرباح على حساب الأجور أدى للجوء الأسر الفقيرة للاستدانة لتمويل إنفاقها والتعويض عن أجورها غير المتزايدة بل والمتناقصة أحيانا، وإنفاق الأسر هذا المبني على الاستدانة يتحول في الاقتصاد إلى طلب، والطلب المتزايد يدفع الشركات نحو الاستثمار لتلبية هذا الطلب، وجزء من الاستثمار يكون من نصيب رأس المال الثابت، وهنا نشير لنقطة مهمة وهي أن سلوك الشركات ليس مدفوعا بمستوى الطلب الحالي فقط إنما بتوقعاته لمستوى الطلب في المستقبل، بل لعل توقعات المستقبل أهم من مستوى الطلب الحالي في كثير من الأحيان، لكن من خصائص الفقاعات أنها تخلق توقعات وهمية حول مستويات مرتفعة من الطلب، وبالتالي تبادر الشركات بنفسها للاستثمار الكبير والذي يذهب جزء منه لرأس المال الثابت كما ذكرنا، وتحديدا قطاع العقار في الحالة الأمريكية، مما يدفع معدل استخدام الطاقة الإنتاجية نحو الارتفاع، مما يعني قرب قطاع ما من مرحلة التشبع، لكن عندما تنفجر الفقاعة وتكتشف الشركات أن الطلب الذي بنت عليه استثماراتها كان طلبا وهميا، حينذاك يفقد معدل اسنخدام الطاقة الإنتاجية الارتفاع الوهمي السابق، مما يعني انكشاف وجود فائض من الاستثمارات التي لا وظيفة إنتاجية لها بعد الآن، مما يخفض معل الربح ويخفض من معدل الاستثمار ككل في الاقتصاد، هذه الوصفة قد تتخذ هيئة “كساد طويل الأمد يصيب رغبة الشركات في الاستثمار”، مما “يجعل هذه النزعة نحو الأزمة تنتج أزمات طويلة الأمد في الاقتصاد الحقيقي”([18]). إن مقاربة كوتز تنتج تفسيرا لكيفية ربط الفقاعات المالية بالاقتصاد الحقيقي بحيث أن انفجار الفقاعة لا ينتج فقط صدمة مؤقتة للاقتصاد بل يمكن أن ينتج شللا ممتدا في الاقتصاد الحقيقي.ومن حيث ارتباط هذه المقاربة بالمحاور الثلاثة للمقارنة، أي دور القرارات الاستثمارية وتكوّن الفقاعات المالية، والدور الذي يلعبه عامل المنافسة، ودور الصراع الطبقي، فإن مقاربة كوتز تبدو مرتكزة بشكل أساسي على المحور الأول، أي دور القرارات الاستثمارية وتكوّن الفقاعات المالية، فهذا المحور أساسي في مقاربة كوتز لأن سبب فائض الاستثمار في رأس المال الثابت هو تحديدا القرارت الاستثمارية التي تتخذها الشركات في ظل الفقاعة، بل إن ما يميز مقاربة كوتز عن مقاربة برينر مثلا المستعرضة أدناه هو تركيز الأولى على الدور المركزي للفقاعة في خلق الظروف المواتية للأزمة، ومن المهم هنا الإشارة إلى أن سبب تشكل فائض الاستثمار ليس القرارات الغبية أو الساذجة للشركات، بل على العكس، إن تلك القرارات يمكن أن تبدو منطقية جدا في ظل خليط من وجود فقاعة مع عدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل، أي عدم القدرة على التيقن ماذا كان الطلب المشهود حاليا حقيقيا أو وهميا وعدم القدرة على التيقن من توقيت هذا الكشف.أما بالنسبة لمحور المقارنة المتعلق بدور عامل المنافسة، فإنه مرتبط بعامل أقل بروزا في الرأسمالية، حيث يقول كوتز: “تفتقد الرأسمالية لآلية تقود عملية خلق القدرات الإنتاجية في الاقتصاد ككل بشكل متناسق مع نمو الطلب”، فيمكن الزعم أن فائض الاستثمار “مصدره خاصية أساسية في الرأسمالية وهي كونها ]نظام إنتاج[ فوضويا”([19])، ففي هذا الإطار لا تعني “المنافسة” أكثر الآليات كفاءة في إدارة الموارد الاقتصادية كما تزعم نظريات السوق النيوكلاسيكية الأرثوذوكسية، بل هي كما تبدو رأي العين في الواقع أقرب للفوضى بين عدد من الأفراد أو الشركات لديهم رأس مال يريدون استثماره في آن واحد، ولتحقيق هدف واحد هو الربح، لكن دون رغبة في تنسيق عملية الاستثمار لتحقيق مصلحة الجميع، من هنا من المهم الانتباه إلى أن مقاربة كوتز بشأن أزمة فائض الإنتاج والفقاعة قد لا تنطبق على الأشكال غير النيوليبرالية من الرأسمالية، مثل الرأسمالية المقيدة في حقبة خمسينات القرن العشرين في المعسكر الرأسمالي أو الرأسمالية شبه الاحتكارية oligopolistic لأنها لا تبدي نزعة نحو الفقاعات كالرأسمالية النيوليبرالية.وبخصوص المحور الثالث والأخير للمقارنة المتعلق بدور الصراع الطبقي فلعله المحور الأقل فاعليةفي مقاربة كوتز، فهو بالتأكيد مهم في فهم نشوء الحقبة النيوليبرالية من الرأسمالية في السبعينات، لكن الصراع الطبقي ليس متغيرا أساسيا في معادلة فائض الاستثمار والفقاعة، فمثلا يتم تفسير الفجوة المتسعة بين الأرباح والأجور كنتيجة لنجاح الطبقة الرأسمالية في صراعها الطبقي ضد الطبقة العاملة، ونتيجة الصراع هذه هي التي تدفع الطبقة العاملة نحو الاستدانة، والتي تخلق بدورها الطلب الوهمي الذي يؤدي للفقاعة، أي أن الصراع الطبقي يحتل موقعا في خلفية المقاربة لا صدارتها، على العكس من مقاربة دومينيل وليفي التي ننتقل لها الآن. أزمة النيوليبراليةقدم الاقتصاديان الفرنسيان جيرار دومينيل ودومينيك ليفي أحد أول التفسيرات لأزمة عام 2008، وذلك في كتابهما “أزمة النيوليبرالية The Crisis of Neoliberalism” المنشور من قبل جامعة هارفارد، وفي أبحاثهما اللاحقة، وتفسيرهما مبني على فهم أزمة عام 2008 كأزمة عامة للشكل النيوليبرالي للرأسمالية، ومن هذا المنطلق يزعم دومينيل وليفي أن أسباب الأزمة متواجدة منذ بروز النيوليبرالية في سبعينات القرن العشرين وليست أسبابا عمرها بضع سنوات فقط، فمقاربتهما بذلك أعمق تاريخيا من مقاربة كوتز التي استعرضناها أعلاه، كما أن الاقتصاد الحقيقي يمثل أحد مكونات مقاربتهما وليس مكونها الوحيد، من هنا فإننا نضطر لاستعراض نقدهما للنيوليبرالية بشكل عام لفهم موقفهما من الاقتصاد الحقيقي.النيوليبرالية وفقا لدومينيل وليفي هي أحدث أشكال “المرحلة الحديثة للرأسمالية”، وبدأت هذه المرحلة الحديثة للرأسمالية في بداية القرن العشرين نتيجة لثلاثة “ثورات”، أولها “ثورة الشركات” والتي تعني موجة تشكيل الشركات في بداية القرن العشرين، وثانيها “الثورة المالية” والتي تعني الدور المتزايد الذي بدأت تلعبه البنوك ابتداء من دورها في تمويل ثورة الشركات المذكورة للتو، أما ثالث العوامل التي أدت لبروز النيوليبرالية في بداية القرن العشرين فكانت “الثورة الإدارية” والتي تعني فصل الملكية عن الإدارة مع تبني نظام الإدارة التيلوري Taylorism في إدارة الإنتاج، وهو يعني التركيز على الميكنة وتخصص العمال في مهام دقيقة محددة بدل قيام كل عامل بإنتاج المنتج كاملا، وأهم الأمثلة التاريخية على تنفيذ ذلك كانت مصانع شركة فورد للسيارات في الولايات المتحدة([20]).وقد أنتجت هذه الثورات الثلاث “تشكيلا طبقيا ثلاثيا”، بمعنى ثلاث طبقات أساسية تمثل أهم المكونات الاجتماعية للرأسمالية الحديثة، والثلاث طبقات هي الطبقة الرأسمالية والطبقة الإدارية([21]) والطبقة الشعبية([22])، وتُستخدم هذه الطبقات الثلاث للتمييز بين الرأسمالية غير المقيدة في بداية القرن العشرين وحتى ما قبل مرحلة التوافق الجديد New Deal في الولايات المتحدة في الثلاثينات، والتي تسمى أيضا مرحلة “الهيمنة المالية الأولى”، مقابل النيوليبرالية التي برزت في السبعينات والتي تسمى أيضا مرحلة “الهيمنة المالية الثانية”، ومن خصائص النيوليبرالية ما يسمى التسوية النيوليبرالية neoliberal compromise، وهي تعني تحالف “الطبقات الرأسمالية”([23]) مع الطبقة الإدارية، بقيادة الأولى، بهدف احتواء مصالح الطبقة الشعبية([24])، كما أن هناك خاصية أخرى للنيوليبرالية وهي أنها تفضّل مصالح جناح المدراء الماليين ضمن الطبقة الإدارية، وبالتالي تقوّي جناحا معينا داخل الطبقة الإدارية([25])، وتُعد هذه الصورة المتداخلة للعلاقات الطبقية من أهم خصائص النيوليبرالية.لكن هناك جانب آخر من النيوليبرالية، يسميه دومينيل وليفي أحيانا الجانب “الفني”، وهو متعلق بالاقتصاد الكلي والاقتصاد الدولي، وفي هذا الإطار يركز المؤلفان على الاقتصاد الأمريكي ويحددان مجموعة عوامل أساسية سببت الأزمة، وهي: هيمنة القطاع المالي financialization، والعولمة، والتراكم البطيء لرأس المال، واختلال الموازين الجارية على مستوى العالم global imbalances([26])، وهذه العوامل الأربعة تؤثر على الاقتصاد الحقيقي وإن بطرق مختلفة، فمثلا ساهمت هيمنة القطاع المالي والعولمة في إضعاف صلابة الاقتصاد العالمي تجاه التقلبات، خصوصا منذ تسعينات القرن العشرين، وهو ما حرث الأرض لنمو المشاكل المالية التي أدت للأزمة على مستوى العالم)[27](، وإلى جانب هذين العاملين فقدت الدول قدرتها على إدارة الاقتصاد الكلي، بل في بعض الأحيان تخلت هي بنفسها عن مهمة الإدارة، وهو ما سمح بتكرار الأزمات المالية على مستوى العالم وأدى لصعوبة منعها، وفي أساس هذه العوامل كلها توجد ظاهرة التراكم البطيء لرأس المال خلال الحقبة النيوليبرالية، وهو السبب الذي يعزو إليه دومينيل وليفي حدة الأزمة عام 2008)[28](، والسؤال الذي يمكن طرحه هنا هو لم قبلت الطبقتان الرأسمالية والإدارية بالنيوليبرالية إذا كانت تجلب التراكم البطيء؟وجواب دومينيل وليفي على ذلك هو أن “هدف النيوليبرالية هو زيادة ثروات الطبقات العليا حتى لو كان ذلك على حساب الاستثمارات في القطاع الحقيقي”)[29](، أي أن الجانب الطبقي من الحقبة النيوليبرالية هو الذي دفعها للاستمرار رغم فشلها في الجانب الفني.وبالتحول نحو محاورنا الثلاثة للمقارنة مع المقاربات الأخرى، فمن الواضح أن الصراع الطبقي يحتل مركز الصدارة في مقاربة دومينيل وليفي، ورغم اهتمامهما بإثبات صحة مقاربتهما بالبيانات الرقمية فإنهما يصران على أن “الصراع الطبقي محرك التاريخ” وهو ما خلق النيوليبرالية وحافظ عليها عبر السنوات)[30](، كما أن ما يدعم مركزية الصراع الطبقي في هذه المقاربة الشرح الموسع الذي تقدمه لدور التحالفات والمساومات بين الطبقات الثلاث، الرأسمالية والإدارية والشعبية، في تشكيل النيوليبرالية وأزمتها عام 2008، إضافة لتفصيلهما حتى داخل الطبقة الواحدة والتمييز بين أجنحتها المختلفة.وبدرجة أقل تأتي أهمية محور القرارات الاستثمارية والفقاعات المالية، فينصب الاهتمام في كتاب “أزمة النيوليبرالية The Crisis of Neoliberalism” على العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد الحقيقي والقطاع المالي، والاهتمام بتأثير الفقاعة العقارية على الاقتصاد الأمريكي يعتبر مؤشرا على أهمية الفقاعات المالية في هذه المقاربة، لكن موضوع القرارات الاستثمارية، على الأقل من حيث كيفية خلقها للفقاعة، لا يبدو مركزيا هنا، بينما يحظى معدل الربح بأهمية خاصة في التحليل البياني والنظري، ولعل هذا هو المدخل لفهم موقع القرارات الاستثمارية وفقا لهذه المقاربة، فالقرارات الاستثمارية تستجيب بشكل متوقع لمعدل الربح، حيث يؤدي الربح المرتفع لازدياد الاستثمار والعكس، وهناك إشارات أخرى متفرقة للقرارات الاستثمارية منها ما هو نقد لمقاربة نقص الاستهلاك، والتي يزعمان على العكس منها أن أزمة عام 2008 يمكن وصفها بأزمة “فائض استهلاك أو عجز في التراكم”، لكن هذه إشارات عابرة وغير معمّقة)[31](.أما ثالث محور للمقارنة، أي محور دور عامل المنافسة، فلا تتم مناقشته صراحة في مقاربة دومينيل وليفي، فهناك إشارات غير مباشرة له كسبب لأزمة سبعينات القرن العشرين عبر ضغط المنافسة الاقتصادية عالميا من قبل اليابان وأوروبا الغربية بعد التعافي من الحرب العالمية الثانية، لكن عامل المنافسة الاقتصادية لا يلعب دورا أساسيا في تفسير أزمة النيوليبرالية، فالتعامل هنا يبدو شبيها بالتعامل مع عامل القرارات الاستثمارية، فكلاهما يقدّم كعامل تقليدي يستجيب للمحفزات والمثبطات التقليدية، دون دور استثنائي في أزمة عام 2008.فائض الاستثمار الناتج عن احتدام المنافسةننتقل الآن للمقاربة الثالثة لأزمة عام 2008 الاقتصادية العالمية، وهي تنويع ثانٍ على فكرة فائض الاستثمار، لكن هذه المرة بسبب المنافسة المحتدمة وفقا للمؤرخ الأمريكي روبرت برينر، وتفسير هذه المقاربة للأزمة في الاقتصاد الحقيقي جزء من تفسير أعم للرأسمالية المعاصرة، فموضوع المقاربة هو الرأسمالية على نطاق عالمي، وهدفها شرح الانتعاش الذي شهده النظام منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945 وحتى سبعينات القرن العشرين والانحدار المزعوم مذاك، وكما مقاربة كوتز فإن مقاربة برينر تركز على سمات الرأسمالية كنظام “تنافسي من غير تخطيط ولا تنسيق”[32]، فلا تنسيق بين الشركات بشأن قراراتها الاستثمارية، ومعدلا التراكم والربح ما هما إلا ناتجين عن جمع مجمل القرارات الاستثمارية الفوضوية، ويشرح برينر هنا كيف تؤدي القرارات الاستثمارية – خصوصا تلك المتعلقة برأس المال الثابت – لخفض معدل الربح وبالتالي إبطاء تراكم رأس المال، وملخص هذه الآلية هو أن المنافسة تدفع كل شركة على حدة لابتكار أساليب تخفض تكاليف الإنتاج لخفض أسعارها والتغلب على منافسيها، لكن الشركات التي تتعرض لهذه المنافسة وتفشل في مقاومتها لا تستسلم مباشرة، بل تحاول النجاة رغم انخفاض أرباحها وذلك عبر زيادة الاستثمار في إنتاجها، وضمنه الاستثمار في رأس المال الثابت وفي جهود الابتكار. ومن المهم هنا الانتباه لخاصية مميزة في مقاربة برينر وهي أنه رغم انخفاض أرباح بعض الشركات نتيجة المنافسة المحتدمة فإن هذه الشركات نفسها تجد من المنطقي أن تزيد استثمارتها في الإنتاج، وسبب ذلك أن الشركات التي باتت تعاني تكاليف الإنتاج العالية مقارنة مع منافسيها الجدد تكون لديها الكثير من التكاليف غير المرتجعة sunk costs، وكذك لديها علاقات تجارية قيمة، وخبرات فنية، مما يعني أن الخروج من السوق وبيع الأصول قد يكون أكبر تكلفة من الاستمرار في مقاومة المنافسة على المدى القصير، وأحد أشكال المقاومة محاولة وأد المنافسين الجدد في المهد عبر إغراق السوق بالمنتجات التقليدية حتى لو على حساب الربح في المدى القصير([33]). وفي سياق مختلف قام بعض الاقتصاديين بشرح هذه الظاهرة المثيرة وغير المتوقعة ووصفها بـ “الاستثمار الإجباري coerced inverstment”([34])، وهو إجباري لأنه متعلق بنجاة الشركة، وهذا الاستثمار يؤدي لخلق فائض في الطاقة الإنتاجية في القطاع الخاضع للمنافسة المحتدمة وبالتالي يساهم في تخفيض معدل الربح في الاقتصاد ككل)[35](، ولو انتشرت هذه المنافسة المحتدمة في قطاعات حيوية ذات المشاريع الكبرى (كالعقار) فإن الشركات الكبيرة غير القادرة على المنافسة قد لا تتمكن أبدا من الخروج من السوق، وهو ما يسميه برينر بـ “الفشل في التأقلم failure to adjust”)[36](، والفشل في الـتأقلم يمكن أن يؤدي لاستمرار فائض القدرة الإنتاجية واستمرار انخفاض معدل الربح منتجا “نزعة مستقلة نحو الجمود الاقتصادي secular stagnation”، وهي نزعة يربطها برينر بالرأسمالية المعاصرة)[37]).والشرح السابق لمقاربة برينر مهم لأنه يمهد لتفسيره للأزمة في الاقتصاد الحقيقي، ليس عام 2008 فحسب بل منذ أربعة عقود، فهو يزعم أن النزعة المستقلة نحو الركود قد بدأت ومنذ أواخر ستينات القرن العشرين، ومصدرها ازدياد حدة المنافسة بين القوى المهيمنة على المعسكر الرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية من جهة، أي الولايات المتحدة بالدرجة الأولى ثم بريطانيا، ومن جهة أخرى القوى الصاعدة بعد الحرب كألمانيا واليابان([38])، وأدت هذه المنافسة الدولية المحتدمة إلى فائض استثمار عام خفّض بدوره معدل الربح، وخفّض معدل تراكم رأس المال، وأدى لهبوط عام في النشاط الاقتصادي مستمر حتى اليوم([39])، والطريقة الوحيدة لإنعاش الاقتصاد من نزعة الركود هذه هي اللجوء للتنمية غير المتكافئة عبر نقل الشركات لعملياتها الإنتاجية إلى الدول النامية بعيدا عن المنافسة المحتدمة في دول العالم الرأسمالي الكبيرة، ومن هنا جاء صعود الدول الناشئة في جنوب شرق آسيا مثلا، لكن نظرا للطبيعة المعولمة للاقتصاد الرأسمالي المعاصر فإن عملية نقل مراكز الإنتاج هذه لا يمكن أن تمثل سوى حل قصير الأمد، ونتيجتها النهائية ستكون على الأرجح نقل المنافسة المحتدمة تدريجيا للدول النامية، أي توسيع نطاق أزمة المنافسة المحتدمة التي تبعث فائض الاستثمار.ويزعم برينر في شرح أكثر تفصيلا لأزمةعام 2008 أن الأزمة الحالية ما هي إلا أحدث أشكال أزمة فائض الاستثمار المغروسة في الرأسمالية المعاصرة([40])، وهنا ينتقد برينر عددا من الحلول التي فشلت في معالجة هذه الأزمة العامة المستمرة، منها مثلا نقده لـ “كينزية أسواق المال stock market Keynesianism” و”اقتصاد الفقاعات buublenomics” كآليات تحاول عبرها جهات مثل البنك الفيدرالي (المركزي) الأمريكي والحكومة الأمريكية والمؤسسات الدولية إنعاش الاقتصاد دون جدوى([41])، فالفقاعات مثلا انتفخت بدعم من فوائد البنك الفيدرالي المنخفضة بدعوى أن هذا الخفض مفيد لإنعاش الاقتصاد، لكن ثبت عام 2008 أن هذه كانت مسكنات لا تشفي المريض، وهنا نؤكد على الدور الأساسي للاقتصاد الحقيقي في هذه المقاربة، حيث كانت الأزمة في الاقتصاد الحقيقي منذ أواخر ستينات القرن العشرين هي السبب الفعلي لأزمة عام 2008، وبالتالي فالاقتصاد الحقيقي يقع في قلب مقاربة برينر.أما بالنظر لمحاور مقارنتنا الثلاثة، فإن مقاربة برينر تبدو الأكثر تركيزا على دول عامل المنافسة ودور القرارات الاستثمارية في خلق الأزمة في الاقتصاد الحقيقي، حيث أن جل المقاربة قائم على وجود منافسة محتدمة أدت لفائض في الاستثمار عبر عملية الاستثمار الإجباري، مما يؤدي لانخفاض معدل الربح وتأزم الاقتصاد الحقيقي، ويقدم برينر نقاطا جديرة بالمتابعة حول طريقة تأثير المنافسة على الدول المختلفة في مراحل مختلفة من تطورها، وكذلك طريقة تأثير قرارات الشركات عليها، وتشمل هذه النقاط شرحا عن معنى التنمية غير المتكافئة اليوم، وعن كيفية اتخاذ الشركات – التي يفترض أنها مؤسسات عقلانية تماما – قرارات سيئة روتينيا، أما بشأن الفقاعات المالية فإن برينر يعترف بدورها المباشر في كشف أزمة عام 2008 لكنها ليست بأهمية عامل احتدام المنافسة الدولية مثلا أو فشل الشركات الكبيرة في التأقلم، فالفقاعات أشبه بالتفصيلات في لوحة كبيرة ألوانها الطاغية هي المنافسة المحتدمة وفائض الاستثمار.وبخصوص محور الصراع الطبقي ودوره في خلق الأزمة في الاقتصاد الحقيقي، فلا يبدو أن لهذا الصراع مكانا أساسيا في مقاربة برينر، وهذا مشابه للحال مع مقاربة كوتز التي شرحناها أولا، فالصراع الطبقي يأتي في الخلفية في سياق توزيع الدخل الوطني بين الأرباح والأجور، وليس كعامل فاعل في خلق الأزمة مباشرة، فمثلا في حالة برينر فهو يتحدث عن الصراع الطبقي في سياق محاولات قطاع الصناعة زيادة أرباحه في العقد الأخير، فيلحظ أنها قامت “لتقليص التكاليف بشن حملة شعواء ضد العمال تشمل تسريحات وتسريعا للعمل وضغطا للأجور، وذلك من أجل رفع معدل الاستغلال ورفع معدل العوائد”([42])، فهنا يبدو أن سبب هذه العملية هو المنافسة المحتدمة التي تؤدي لفائض استثمار، يخفّض بدوره معدل الربح، مما يدفع للصراع الطبقي، أي أن الصراع هنا نتيجة لا سبب.رأس المال العالمي المالي – الاحتكارييلخص مفهوم “رأس المال العالمي المالي – الاحتكاري” مقاربة عالم الاجتماع الأمريكي جون بيلامي فوستر ورفاقه في دورية “مونثلي ريفيو Monthly Review” الاشتراكية الأميركية، فكل جزء من هذا المفهوم يمثل تطورا معينا في الاقتصاد السياسي الماركسي، فـ “رأس المال” في “رأس المال العالمي المالي – الاحتكاري” هو المفهوم الأساسي الذي طوره ماركس، والذي يعني عملية التوسع الذاتي للقيمة، أما جزئية “الاحتكاري” في المفهوم فترمز للنظرية التي طورها الاقتصاديان بول باران وبول سويزي حول الرأسمالية في أواخر القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة في كتابهما “رأس المال الاحتكاري Monopoly Capital”)[43](،ويمكن تلخيص أهم سمات رأس المال الاحتكاري المتعلقة بموضوعنا في هذا البحث كالتالي: هيمنة أشباه الاحتكارات oligopolies في قطاعات أساسية في الاقتصاد، وقدرة أشباه الاحتكارات هذه على استخراج فائض إضافي من العمال على حساب أجورهم، وهذا يؤدي لعدم قدرة العمال على استهلاك ما ينتجونه بأنفسهم، مما يضعف الطلب الكلي في الاقتصاد ويؤدي لأزمة نقص في الاستهلاك (والطلب الكلي) جنبا إلى جنب مع وجود فائض في القدرة الإنتاجية، وهو ما يؤدي للحالة التي يطلق عليها باران وسويزيحالة “الجمود stagnation”،فنظرية رأس المال الاحتكاري مفادها أن الاقتصاد الأمريكي منذ نهايات القرن التاسع عشر يشهد نزعة مستمرة نحو ضعف الاستهلاك (والطلب الكلي) مما جعل الجمود حالة عادية ومستمرة في الاقتصاد.أما جزئيتي “المالي” و”العالمي” في مفهوم “رأس المال العالمي المالي – الاحتكاري” فقد طُورتا مع أزمة عام 2008، فإضافة جزئية “المالي” للمفهوم جاءت لوصف ظاهرة معينة ذكرناها أعلاه وهي هيمنة القطاع المالي على غيره في الاقتصاد في المرحلة النيوليبرالية([44])، وكان أول ظهور واضح لمفهوم “رأس المال المالي – الاحتكاري” في دورية “مونثلي ريفيو” في مقال في شهر ديسمبر 2006، حيث عُرّف “رأس المال المالي” بـ “تشغيل رأس المال النقدي في الأسواق المالية وفي المضاربة بشكل عام”)[45](، والهدف من دمج جزئيتي “المالي” و”الاحتكاري” هو الإشارة للدور الجديد لرأس المال المالي في ظل المرحلة الاحتكارية من الرأسمالية، وهذا الدور يتلخص بمحاولة مقاومة النزعة نحو الجمود الاقتصادي عندما برزت بوضوح للسطح في أزمة الاقتصاد الأمريكي في السبعينات. أما إضافة جزئية “العالمي” لمفهوم “رأس المالي العالمي المالي – الاحتكاري” فتشير لتوسع الاحتكار في الرأسمالية من المستوى الأمريكي إلى العالمي، وذلك في رد ضمني على مقاربة برينر أعلاه التي تزعم على العكس تماما بأن احتدام المنافسة هو سبب الأزمة وليس طغيان الاحتكارات، فيقول فوستر وآخرون:“نحن نزعم بأن المنافسة الدولية التي تجددت منذ السبعينات كانت أكثر محدودية من ما يفترض كثيرون، وسرعان ما أُزيحت واحتلت مكانها مرحلة جديدة من رأس المال العالمي المالي – الاحتكاري، حيث يخضع الإنتاج العالمي بشكل متزايد لهيمنة بضعة شركات عابرة للحدود تملك سلطة الاحتكار، فباختصار إننا نواجه نظاما من شبه الاحتكار على مستوى دولي international oligopoly”([46]).مقاربة فوستر إذن تقدم لنا نظرية للنيوليبرالية قائمة على هيمنة الاحتكارات وأشباه الاحتكارات على مستوى دولي، مع دور أساسي لرأس المال المالي، وما أزمة عام 2008 إذاك سوى فشل جديد للنظام الرأسمالي الاحتكاري في مقاومة نزعته الكامنة نحو الجمود، وكانت الفقاعات المالية محاولة لإيجاد طلب جديد وفرص استثمارية مجزية للشركات لتوظيف رأس مالها، وذلك بعد تشبع الاقتصاد الحقيقي من الاستثمار نتيجة ضعف الطلب الكلي فيه إثر ضغط الأجور، بمعنى آخر فإن الاستثمار “المالي المضارب صار أشبه بالمحرك الثانوي للنمو بعد الضعف الذي اعترى المحرك الأساسي وهو الاستثمار المنتج”)[47](، لكن هذا لا يعني بأن الفقاعات قد نجحت فعلا في وظيفتها في رفع نسب النمو الاقتصادي، وإلا لما انتهينا إلى أزمة كبرى للنظام الاقتصادي العالمي.أما بشأن سبب الأزمة في الاقتصاد الحقيقي، فإن مقاربة فوستر تهتم بشرح تطور الفقاعة في قطاع العقار الأمريكي وكيفية انفجاره، بل كان فوستر ضمن قلة قليلة من المختصين حول العالم الذين تنبؤوا بأزمة عام 2008 وبتفاصيلها منذ مايو من عام 2006)[48](، لكن يبقى السبب الرئيس للأزمة في الاقتصاد الحقيقي وفقا لفوستر هو نزعة الجمود الكامنة في الرأسمالية الاحتكارية منذ بروزها في نهاية القرن التاسع عشر، وهنا نلحظ تشابها بين مقاربة فوستر وبرينر حيث يزعم كلاهما أن الأزمة الجديدة تمثل بشكل أساسي مجرد شكل جديد لأزمة قديمة كامنة، وإن اختلفا في الاتفاق على تفاصيل تلك الأزمة الكامنة([49]).ومن حيث مقارنة مقاربة فوستر مع المقاربات الثلاث السابقة، فنلحظ بأن مقاربة فوستر تركز على محور القرارات الاستثمارية وتشكل الفقاعات المالية لتفسير الأزمة في الاقتصاد الحقيقي، حيث أدى الجمود في الاقتصاد الحقيقي لدفع الشركات نحو تحويل استثماراتها باتجاه القطاع المالي لتحقيق أرباح مقبولة، فتضخم القطاع المالي من حيث السيولة والأرباح والأهمية لكنه لم يكن يجد قنوات كافية لتصريف السيولة في القطاعات المنتجة، فاستخدمها في المضاربات، والتي لا يمكن أن تستمر للأبد في تحقيق أرباح طالما الاقتصاد الحقيقي يعيش أزمة جمود ضمنية مستمرة، فكان الانفجار عام 2008.أما موقع عامل المنافسة في مقاربة فوستر، فإن له موقعا في الصياغة الأولى لمفهوم “رأس المالي الاحتكاري”، حيث كان الشكل الدارج من المنافسة بين الشركات هو المنافسة المنسَّقة co-respective comepetion بين أشباه الاحتكارات، بمعنى أنها منافسة فيها أشكال من الاتفاق على بعض القضايا مثل حد أدنى للأسعار وتقسيم معين للأسواق، على عكس المنافسة المفتوحة التي لا تحتوي على اتفاقات جدية من هذا النوع، وتلك المنافسة المنسَّقة هي التي تسمح لرأس المال بمراكمة فائض أكثر من فائض الرأسمالية التنافسية، وهذا الفائض يلعب دورا لاحقا في خلق أزمة فرص الاستثمار ثم الفقاعات، وهنا يوجد تشابه مع مقاربة برينر فيما يتعلق بمركزي عامل المنافسة في خلق الأزمة، وإن كان له رأي مختلف تماما بشأن نوعية هذه المنافسة وآثارها.أما المحور الأخير للمقارنة – أي دور الصراع الطبقي في الأزمة – فهو لا يحتل موقعا أساسيا في مقاربة فوستر، فهو يظهر عند نقاش تشكل الفقاعة المالية في العقار الأمريكي نتيجة نجاح الطبقة الرأسمالية في ضغط أجور العمال بدرجة تدفعهم للاستدانة بكثافة لتوفير قوت يومهم([50])، وتوجد تعليقات شبيهة حول دور الصراع الطبقي في أحداث معينة قبل الأزمة وبعدها، مثل سياسية البنك الفيدرالي (المركزي) الأمريكي في خفض معدل الفائدة قبل الأزمة ثم إنقاذ البنوك والشركات الكبرى بعدها، لكن يبقى السبب الرئيس لأزمة النظام هيكليا فنيا وليس متعلقا بالصراع الاجتماعي الحي، وهنا يوجد توافق بين مقاربات فوستر وبرينر وكوتز حول التعامل مع الصراع الطبقي كسبب حاسم لكن في خلفية الأحداث، وربما يمكن تشبيهه باليد التي تحرك الدمى في الرأسمالية لتحقيق مصالح رأس المال.هل من صيغة توفّق بين المقاربات الأربع؟في الواقع من الصعب التوفيق الكامل بين المقاربات الأربع المستعرضة أعلاه، رغم انتمائها جميعا للتراث الماركسي، وذلك بسبب الاختلاف الجدي بينها في فهم دور عامل المنافسة في خلق أزمة عام 2008، وإن كان هناك مجال للتوافق بينها حول محوري القرارت الاستثمارية والفقاعات المالية من جهة، ودور الصراع الطبقي من جهة أخرى.فبالنسبة لمحور القرارات الاستثمارية والفقاعات المالية، فإن المقاربات الأربع تعترف – وإن بطرق وبدرجات مختلفة – بأهمية هذا المحور، فكوتز مثلا يجعله المحور الأساسي في مقاربته الخاصة بفائض الاستثمار الناتج عن الفقاعة، كذلك يركز عليه برينر في مقاربته مع ربطه بعامل المنافسة لصياغة مقاربته حول فائض الاستثمار الناتج عن احتدام المنافسة، أما فوستر فيركز بدرجة أقل على المحور عبر الحديث عن العلاقة بين نقص الفرص الاستثمارية في الاقصاد الحقيقي وتوجيه رأس المال نحو الفقاعات المالية، فيظل السبب الرئيس للأزمة بالنسبة لفوستر هو الجمود الاقتصادي الذي يضرب أطنابه في الرأسمالية، وما القرارات الاستثمارية والفقاعات إلا إضافات ترقيعية، ولعل أقل المقاربات تركيزا على القرارات الاستثمارية والفقاعات المالية هي مقاربة دومينيل وليفي، فهما لا يقدمان فهما جديدا للعلاقة بل يستندان للفهم التقليدي للعلاقة بينهما.من هذا المنطلق يمكن القول أنه على الرغم من الاختلاف في التفاصيل بين المقاربات الأربع فيما يتعلق بالقرارت الاسثتمارية والفقاعات المالية، رغم ذلك فإن المقاربات ليست متناقضة في محتواها وإن كانت متباينة، فمثلا مقاربة كوتز تختلف عن مقاربة برينر فيما يتعلق بتحديد أسباب فائض الاستثمار، لكن المقاربتين تعملان على مستويين مختلفين من التحليل ولهما مديان تاريخيان مختلفان، مما قد يبرر بعض التباين، فبرينر يحاول تفسير أوضاع النظام الرأسمالي ككل منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، بينما يحصر كوتز هدفه في تفسير أزمة عام 2008 فقط وبالتركيز على مجال الاقتصاد الحقيقي، لذلك يمكن مثلا أن تكون مقاربة برينر العامة صحيحة في الوقت نفسه الذي تكون فيه مقاربة كوتز صحيحة فيما يتعلق بالأزمة الأخيرة، وتوجد مساحة شبيهة للتوافق بين مقاربتي فوستر من جهة، ودومينيل وليفي من جهة أخرى.أما بالنسبة لعامل المنافسة فإن محاولة التوفيق بين المقاربات الأربع تصبح أكثر صعوبة بسبب الاختلاف الشديد حول هذا المحور بين برينر وفوستر، أما كوتز ودومينيل وليفي فلا يركزان كثيرا على دور عامل المنافسة في خلق الأزمة أصلا، وبالتالي فهناك مساحة في الهامش للتوفيق بينهما في التفاصيل، أما برينر وفوستر فيحتل عامل المنافسة موقعا مركزيا في مقاربتيهما، لكنهما يختلفان بشدة حول شكل هذه المنافسة في الرأسمالية المعاصرة، ويبدو من الصعب على أي منهما أن يتنازل عن تفسيره لصالح الآخر وإلا ضعفت جديا مقاربته، وفي كتابات فوستر الجديدة حول التوسع العالمي لرأس المال المالي – الاحتكاري اعتراض صريح على المزاعم بشأن تزايد حدة المنافسة الدولية منذ سبعينات القرن العشرين([51])، ولا يبدو أن برينر أكثر مرونة في موقفه، لذلك يبدو أن محور عامل المنافسة هذا بحاجة لبحث أعمق لمحاولة تشكيل توافق ماركسي حول طبيعته ودوره في الرأسمالية المعاصرة، وليس المطلوب طبعا الإجماع بين الماركسيين إنما محاولة تخفيف التعارض بين المقاربات المنتمية لتراث فكري متشابه لتعميق الاقتصاد السياسي الماركسي المعاصر وجعله أكثر اتساقا مع نفسه.ولعل من المريح بعد ذلك وجود توافق عام بين المقاربات الأربع حول دور الصراع الطبقي في خلق أزمة عام 2008، ولعل السبب الأساسي في هذا التوافق هو قبول المقاربات للصراع الطبقي كمعطى أساسي في فكرهم، كما أنه ليس العامل الفاعل في مقارباتهم على أي حال مقارنة بعوامل المنافسة والقرارات الاستثمارية والفقاعات المالية، وبالتالي فالمجال ضيق للاختلاف، ولعل أكثر الشروحات تفصيلا حول طبيعة الصراع الطبقي في ظل النيوليبرالية هما لدومينيل وليفي، لكنهما يصران على أن أزمة عام 2008 لم تكن بسبب مباشر من الصراع الطبقي، بمعنى أنها لم تنتج مثلا عن نجاح الطبقة العاملة في رفع الأجور وبالتالي تقليص أو ضغط الأرباح، وهي نظرية تُعرف بـ “ضغط الأرباح profit squeeze” وتُستخدم لتفسير أزمة السبعينات في الولايات المتحدة وأوروبا([52]). على أي حال لعل توافق المقاربات الأربع حول موقفها من الصراع الطبقي مؤشر إيجابي حول علاقة التفسيرات الماركسية بالأزمة الحالية، بمعنى وجود أرضية مشتركة تجمعها، كما أن هذه الأرضية لا تقوم على علاقة سببية بسيطة ومباشرة بين الصراع الطبقي والأزمات، وهي مقاربة يُتهم الماركسيون عادة بتبنيها بدوغمائية مهما كانت طبيعة الأزمة محل النقاش، فجميع المقاربات المقدمة أعلاه تقدم تفسيرات مبتكرة لفهم أسباب الأزمة وأبعادها مع الحفاظ على فكرة الصراع الطبقي كفكرة محفزة في الخلفية.وباختصار فإنه بناء على الاستعراض المقدم أعلاه لأربع مقاربات ماركسية لأزمة عام 2008 الاقتصادية العالمية، مع التركيز على الاقتصاد الحقيقي، يمكن الخلاص إلى سمات عامة للخطاب الماركسي حول الأزمة، فالخطاب يركز على دور القرارات الاستثمارية والفقاعات المالية في خلق الأزمة بشكل مباشر، ولعل المقاربات المتعلقة بفكرة فائض الاستثمار تمثل إضافة نوعية للاقتصاد السياسي الماركسي قياسا على مدارس اقتصادية أخرى. وسمة أخرى للخطاب الماركسي حول الأزمة هو الاحتفاظ بالصراع الطبقي دائما على مسرح الأحداث، خصوصا عند الحديث عن سبب نشوء النيوليبرالية وكيفية استمرارها وطبيعة أهدافها، وآخر سمة للخطاب الماركسي نشير إليها هنا هي وجود اختلاف حول دور عامل المنافسة في الفهم الماركسي لأزمة عام 2008، بين من يرى تسيّد الاحتكارات وشبه الاحتكارات من جهة، وبين من يرى احتدام المنافسة الدولية، وهذا ما يدعو لمزيد من البحث في هذا العامل.الخلاصةحاول هذا البحث تقديم عرض لأربع مقاربات ماركسية لأزمة عام 2008 مع تركيز على الاقتصاد الحقيقي، ثم عقد مقارنة بينها بهدف تحديد إمكانية التوفيق بينها، وكانت أول المقاربات المستعرضة لصاحبها كوتز الذي يرى أن سبب الأزمة هو فائض الاستثمار الناتج عن الفقاعة المالية، ثم استعرض البحث مقاربة دومينيل وليفي التي تشرح طبيعة الأزمة العامة في النيوليبرالية، ثم مقاربة برينر القائمة على فائض الاستثمار النتاج عن المنافسة المحتدمة، وكانت آخر المقاربات المستعرضة هي مقاربة فوستر القائمة على مفهوم رأس المال العالمي المالي – الاحتكاري. وتمت مقارنة المقاربات الأربع على ثلاثة محاور هي: دور العلاقة بين القرارات الاستثمارية والفقاعات المالية، ودور عامل المنافسة، ودور الصراع الطبقي. وجاءت نتيجة المقارنة أنه يمكن التوفيق بين المقاربات الأربع فيما يتعلق بمحوري القرارات الاستثمارية والصراع الطبقي، لكن من الصعب التوفيق بينها فيما يتعلق بعامل المنافسة.