كتلة تاريخية.
بقلم: د.فواز فرحان*
لم أكن أنوي التحدث بتفصيل عن موضوع الكتلة التاريخية بعد حملة (الهاشتاق) التي انتشرت انتشاراً لم أكن أتوقعه لولا أن إحدى الصحف تطرقت له وذكرت إسمي تحديداً كأحد دعاة تشكيلها وكذلك بسبب مناقشة هذا الموضوع بين أعضاء التيار التقدمي الكويتي ووجود وجهات نظر متباينة في هذه النقاش.
قبل أسبوع تقريباً كتبت عدة تغريدات عن طبيعة الصراعات الرئيسية تاريخياً وكيف أنها ذات طبيعة طبقية وأن التغيير تقوده طليعة سياسية واعية لهذه الطبيعة، وكتبت في هذا السياق عن وجود مراحل تاريخية معينة يضعف فيها هذا الصراع الطبقي وتصطف القوى السياسية والاجتماعية بمختلف طبقاتها وفئاتها وراء هدف موحد يتمحور حول (التخلص من التسلط) وذلك من خلال تشكيل (كتلة تاريخية) وضربت أمثلة معينة مثل مرحلة التحرر من الاستعمار ومرحلة التطور السياسي الكبير والمتمثل بإنشاء الدول الحديثة وبناء أنظمتها، واتصل بي أحد الأصدقاء واستأذنني بنسخ التغريدة التي ذكرت الكتلة التاريخية كنوع من إعادة روح الحماس للناشطين في الحراك الشعبي الكويتي فوافقت مباشرةً لأنني لم أكن أتوقع بأنها ستنتشر انتشاراً كبيراً وأنها ستفهم بطريقة مغايرة للتعريف العلمي والتاريخي للكتلة التاريخية.
أول مَنْ أبرز مصطلح (الكتلة التاريخية) هو المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي وذلك في ظل وضع سياسي واجتماعي معين في إيطاليا خلال الثلث الأول من القرن العشرين كان يتمثل في تغوّل وحش (الفاشية) الذي بدأ في نهش جسد المجتمع الإيطالي وتمزيقه عنصرياً وفئوياً وأصبح مع (النازية) خطراً يتهدد العالم، حيث ذكر غرامشي أنه يجب على مختلف التيارات السياسية والأحزاب المنظمة المختلفة فكرياً فيما بينها ومؤسسات المجتمع المدني المختلفة والنقابات (التي تمثل مصالح البرجوازية والتي تمثل مصالح العمال) والجمعيات المهنية والطبقات (البرجوازية والعاملة) ومختلف الفئات الاجتماعية والشعبية والمثقفين والمجاميع الاقتصادية الاصطفاف ضمن (كتلة تاريخية) لمواجهة هذا الوحش الفاشي التسلطي وانتشال إيطاليا من الوحل الذي ستغوص في، ويبدو واضحاً مما سبق أن (الكتلة التاريخية) تتشكل من مختلف الأحزاب والطبقات والنقابات والفئات لمواجهة التسلط الذي سيجعل البلد ينهار والشعب يتضرر، وأن هذا المصطلح لا ينطبق على التحالفات والجبهات السياسية التي تتشكل في مراحل معينة بهدف السعي لترويج وتطبيق مشروع سياسي محدد، وكذلك لا يجوز تسطيح أو تبسيط مصطلح (الكتلة التاريخية) لسلق مشروع سياسي معين لأن ذلك سيسبب خللاً في التحليل وبالتالي خللاً في مستقبل هذا المشروع ناهيك عن عدم العلمية في وضع المصطلحات السياسية في موضعها الصحيح.
في الكويت هناك أزمة سياسية تتمثل في وجود (دستور الحد الأدنى) والذي يعتبر منقوص الديمقراطية والحرية واستخدام السلطة لهذا النقص لخدمة مشروعها الساعي لتقويض الهامش الديمقراطي وتحويل نظام الدولة إلى نظام مشيخي صرف على نسق أنظمة القرون الوسطى، وكل المشاكل التي نراها في قطاعات الدولة المختلفة ليست إلا مظاهر لهذه الأزمة السياسية، وتزداد هذه المشاكل عمقاً واستفحالاً بسبب ممارسات السلطة المختلفة لخدمة مشروعها. لقد بدأ الحراك الشعبي السابق كردة فعل احتجاجية على ممارسات السلطة المستفزة للشعب وحقق بعض النتائج الإيجابية ولكنه وصل إلى مرحلة الركود والسكون لأنه لم يكن يحمل مشروعاً محدداً لحل الأزمة السياسية الرئيسية في البلد... وظهرت في الفترة الممتدة على مدى شهرين سابقين مطالبات من بعض القوى السياسية المعارِضة والمجاميع الشبابية الناشطة في الحراك الشعبي وكذلك من بعض الأفراد المستقلين بإيجاد مشروع سياسي لحل الأزمة السياسية في البلد وأنه من المحبذ أن يكون مشروعاً تتوافق عليه المعارضة، وكان التيار التقدمي الكويتي سباقاً في ذلك من خلال وضعه لرؤية واضحة للإصلاح الديمقراطي في الكويت وكذلك تفاعل مع دعوة ائتلاف المعارضة للأطراف المشاركة فيه لتقديم مشاريعها تمهيداً لوضع مشروع موحد يعمل عليه بشكل منظم... وهنا نرجع إلى مصطلح (الكتلة التاريخية)؛ لا يمكن بأي شكل من الأشكال وصف أي اصطفاف سياسي بين مجموعة من التيارات السياسية وراء مشروع محدد بالكتلة التاريخية وذلك لسبب واضح وهو: عدم وجود اتفاق أو حتى توافق بين مختلف القوى السياسية ومختلف الطبقات الاجتماعية والفئات التي تشكل المجتمع ومختلف النقابات (الممثلة لمصالح مختلف الطبقات) والجمعيات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني على تشخيص السبب الرئيسي لأزمتنا السياسية وعلى الحلول للخروج من هذه الأزمة، وأقرب وصف لأي اصطفاف ممكن أن يحدث هو: ائتلاف أو تحالف أو جبهة سياسية.
يجب أن أكون واضحاً بخصوص تشكيل ائتلاف أو تحالف أو جبهة سياسية تحمل مشروعاً موحداً في مرحلة الحراك السياسي الديمقراطي المنظم القادمة من ناحية الأطراف التي قد تشارك به؛ لا يمكن للتيارات الديمقراطية والتقدمية أن تشارك في مثل هذا المشروع الموحد مع أطراف لا تؤمن بالديمقراطية إيماناً حقيقياً وتستخدم الديمقراطية للوصول إلى مقاعد البرلمان لتمارس بعدها سياساتها الرجعية والإقصائية ضد من يخالفونها في الفكر والمنطلق، ولا يجب أن تضع التيارات الديمقراطية والتقدمية يدها بيد من يفصل مفهوم الحرية على مقاس قناعاته ليقمع حرية المخالفين له في المبدأ والفلسفة، سيسأل أحدهم: وكيف شاركتم مع المختلفين معكم في درجة الإيمان بالديمقراطية وفي مفهوم الحرية في الحراك الشعبي؟ وجوابي هو أن الحراك الشعبي السابق كان ردة فعل تجاه ممارسات سلطوية معينة ومن الطبيعي أن يكون لنا موقف تجاه هذه الممارسات بغض النظر عمّن يقف ضدها وهذا لا يعتبر تحالفاً أبدياً أو مشاركةً في مشروع موحد، فالخطأ لا يتحول إلى صواب بسبب نوعية مَنْ يقف ضده وكذلك كان الاصطفاف موزعاً بين مَنْ يستنكرون هذه الممارسات وبين مَنْ لا يعتقدون بأنها ممارسات مستنكرة، أما في مرحلة الحراك السياسي الديمقراطي المنظم القادمة فلابد أن يكون مَنْ تتحالف معه مؤمناً بمشروع الإصلاح السياسي بمختلف جوانبه إيماناً جدياً لا يتعارض وممارسات وخطاب هذا الذي تتحالف معه.
في النهاية سنظل نناضل في سبيل حرية وطننا وسعادة شعبنا مهما كثرت التحديات وازدادت التناقضات لأننا مؤمنين بحتمية التغيير وبحقيقة سير التاريخ إلى الأمام لا إلى الخلف، حتى وإن أبطأ سيره أو تعرّج خط مساره قليلاً.
----------------------------------------
*عضو التيار التقدمي الكويتي.