حسافة.. بقلم: عبدالهادي الجميل
بقلم: عبدالهادي الجميل
تداول الكويتيون، خلال الأيام الماضية، لوحة فنية معبّرة جدا للفنان الكويتي عبدالله الجيران، تصوّر الخراب المخيف الذي لحق بالكويت، مؤخرا، بسبب الفساد. أطلق الجيران على اللوحة اسما شعبيا معبّرا هو"حسافة"، واستخدم في رسمها الأسلوب السريالي.
تتميز السريالية بقدرتها الفائقة على تحرير الأفكار والخيال من كبت الوعي وقيود العقلانية، فتمنحها سلاسة التدفق، بشكل حر وتلقائي.
لهذا السبب تبدو الأعمال السريالية غريبة بعض الشيء وغير منطقية وأحيانا مخيفة.
في عام 1937م، وفي السنة الثانية من الحرب الأهلية الإسبانية(1939-1936)، شنّت الطائرات الألمانية غارة عنيفة على بلدة غرانيكا الإسبانية الثائرة ضد حليف أدولف هتلر الجنرال الإسباني الفاشي فرانكو.
قام الفنان الإسباني بابلو بيكاسو بالرد على الغارة بريشته الساحرة، فرسم الخراب الذي لحق بالبلدة بشكل سريالي غريب.
لم تمض عدة سنوات إلّا وأصبحت لوحة غرانيكا أشهر عمل فني مناهض للحروب في العالم.
ومما يروى أن جنود فرانكو دخلوا إلى مرسم بيكاسو، وهو يرسم اللوحة، فأشاروا إليها، وسألوه: هل أنت فعلت هذا؟(يقصدون اللوحة).
فقال: لا، بل أنتم(يقصد الخراب في اللوحة).
في لوحة"حسافة"نجد خرابا آخرا، يختلف عن خراب غرانيكا، فالخراب في"حسافة" حدث بأيدي كويتية، في حين أن خراب غرانيكا تم بأيدي أجنبية.
وفي كل الأحوال..جميع الأيادي المخرّبة آثمة.
تُظهر مقدمة لوحة"حسافة"رجلا كويتيا يقف، بأسى وعجز، يشاهد خراب كل شيء في بلاده.
لا نرى من الرجل سوى يديه المتشابكتين وراء ظهره. وكأنه يقول: لم أشارك في صنع هذا الخراب.
هذا المشهد يذكّرنا بشخصية"حنظلة"الشهيرة الذي كان يقف نفس هذه الوقفة اليائسة أمام الخيبات التي وأدت حلمه بإنقاذ فلسطين الجميلة.
رْسْم الرجل بهذا الحجم ووضعه في مقدمة اللوحة وفي مركز الحدث، تأكيد على أن الإنسان هو العنصر الأهم في المشهد وفي الكويت.
لا يمكن لأعيننا أن تخطئ الإسفلت المهترئ تحت قدمي الرجل والرصيف الخالي من البلاط.
وهي إشارة إلى أن أرض الكويت لم تعد صالحة لحركة السيارات ولا لمشي الإنسان!
في الجهة اليمنى نرى صندوق قمامة ملقى على جانبه وتحيط به أكياس سوداء مبعثرة على الأرض بدلا من أن تكون داخل الصندوق. وهو من المشاهد اليومية التي أصبحت معتادة في شوارع وأحياء الكويت.
على الرصيف نرى تناقضا له مدلولاته الواضحة، فإلى اليمين يظهر قط أسود يدير ظهره لنا وينظر إلى الخراب، وإلى اليسار نرى نورسا أبيضا يدير ظهره لمشهد الخراب!
التناقضات هنا تتمثّل في:
اليمين واليسار
السواد والبياض
القط والنورس
للقط الأسود رمزية سلبية في الثقافة العربية حيث يُعتبر فأل سيء يُنذر بالخطر ويبعث الخوف في النفوس.
بينما يرمز النورس الأبيض للفأل الحسن وقُرب الوصول إلى شاطئ النجاة والطمأنينة.
طائر النورس هو الإشارة الإيجابية الوحيدة في اللوحة بأن أمل إنقاذ الكويت ما زال باقيا.
في منتصف الرصيف تبدو كرة قدم مثقوبة ومهملة وبجانبها قميص منتخب الكويت الأزرق، واللافت أن طراز الكرة قديم جدا ويعود إلى فترة السبعينات، وهي الفترة الذهبية التي شهدت ازدهار الكويت وتوهّجها تنمويا واقتصاديا وثقافيا ورياضيا. وما زال الكويتيون يحنّون إلى تلك الفترة الجميلة كلّما آلمتهم وأحبطتهم أوضاع بلادهم الحالية.
في منتصف اللوحة وعلى امتدادها من اليمين إلى اليسار، ترتص براميل رمادية متفاوتة الأحجام وباهتة اللون، قد تكون براميل نفط. وفي وجودها وسط الخراب إشارة الى ان ثرواتنا الهائلة قد أُسيء استغلالها وقد تكون سببا فيما نعانيه حاليا أو على الأقل لم تنجح في منع حدوث كل هذا الخراب.
في أعلى منتصف اللوحة تظهر أشهر معالم الكويت.. الأبراج الثلاثة التاريخية وبرج التحرير وأبراج المياه الزرقاء، تبدو الأبراج تتهاوى في كل اتجاه.
سقوط معالم الكويت بهذا الشكل المخيف يرمز، في رأيي، إلى سقوط الكويت وزوالها وهو ما يخشاه الشعب.
بين أبراج الكويت وبرج التحرير يظهر مركز الشيخ جابر الثقافي(دار الأوبرا)، يبدو سليما من الخراب ولكن اتجاه حطام البرجين المتساقط من الأعلى ينذر بإمكانية هدم المركز وانهياره. وهي إشارة إلى أن ثمن عدم التصدي الحازم للفساد منذ البداية، سيؤدي إلى هدم وتخريب كل شيء آخر مهما كان جميلا وأنيقا وراقيا!
في أقصى يسار الخلفية البعيدة تبدو بعض المباني الرمادية، صامتة وكئيبة، بلا روح وبلا هوية وبلا نوافذ!
وكأنها امتداد للأفق القاتم الملبّد بالغيوم التي تخفي وراءها سماء الكويت الزرقاء وشمسها المشرقة!
منظر الأفق كئيب جدا ولا يبشّر بمستقبل مختلف عن الحاضر، ولكنه ملائم جدا لمضمون اللوحة المتشائم.
في اللوحة الكثير مما يقال ومما لا يقال، ويبقى السؤال الأهم:
من فعل كل هذا؟
- هم أو نحن أو كما قال بيكاسو للسلطة: بل أنتم.