على هامش ذكرى «يوم الأرض»
أجمع الفلسطينيون، ولا يزالون، في جميع أماكن تواجدهم، وكل فئاتهم العمرية والاجتماعية، وتوجهاتهم الفكرية والسياسية، وانتماءاتهم الحزبية، على اعتبار يوم 30 مارس/ آذار من عام 76، «يوم الأرض» الفلسطينية. ولا عجب. فقد شكل هذا اليوم لحظة انعطاف متميزة في سياق نضال «فلسطينيي 48»، لسببين، أولاً لأنه كان يوماً لحسم «جدل» انتمائهم الوطني، ورفضهم مصادرة ما تبقى، وبالتالي، ما صودر، من أرضهم، ولإعلان تمسكهم بها، ورفض اقتلاعهم منها. وثانياً، لأن أحداث هذا اليوم كانت فاتحة الانتقال من رد الفعل إلى الفعل، والمبادرة في نضالهم. ففي ذاك اليوم لبت جماهير هذا الجزء من الشعب الفلسطيني دعوة «لجنة الدفاع عن الأرض» إلى الإضراب العام، احتجاجاً على البدء بتنفيذ مخطط «وثيقة كيننغ» لتهويد الجليل.وفيما حاول جيش الكيان وحكومته، آنذاك، كسر الإضراب، أبدت هذه الجماهير استعداداً عالياً للمقاومة والتضحية، عبر المشاركة الواسعة في مظاهرات ضخمة، عمت قرى سخنين ودير حنا وعرابة البطوف والطيبة، وهو ما دفع هذا الجيش الباغي لتفجير حقده الصهيوني الأسود، وتصعيد قمعه للمتظاهرين، ما أسفر عن استشهاد ستة مواطنين، وجرح العشرات، واعتقال المئات. هنا، تحولت المظاهرات إلى هبة شعبية شاملة وعارمة لإسقاط مخطط «كيننغ». كان ذلك هو الهدف المباشر لتلك الهّبة، لكنها في الأبعد وغير المباشر، عبرت عن تجذر، ويقظة، وارتقاء، وعي فلسطينيي 48، بهويتهم الوطنية والقومية، وعن قناعتهم بحقيقة أن موضوع الأرض والسيطرة والسيادة عليها هو محور الصراع، وبحقيقة أن البعد القومي هو جوهره.أما الدلالات الأعمق، والأكثر أهمية، فحملها ارتقاء شرارات تلك الهّبة إلى «حريق» عمَّ كامل «سهل» الفلسطينيين، وعكس تشبثهم بأرضهم، واستعدادهم لمواصلة النضال لأجل الدفاع عنها، والصمود عليها، واستعادتها، والعودة إليها، كوطن ومصدر رزق معاً.وهو ما دفع الأحزاب الصهيونية، وحكومة الكيان، في حينه، لإعادة النظر في برامجها، ووقف تنفيذ إجراءات مخطط «كيننغ»، وقد عبر الأخير نفسه، عن ذلك، حيث قال: «إن نجاح الإضراب نجاحاً تاماً في القطاع العربي، هو حقيقة يجب تدارسها وقبولها كمعطيات، ونقطة انطلاق لكل بحث في الموضوع». هذا، علماً بأن رائحة وثيقته العنصرية لم تَفُح، بالكامل، في 1/ 3/ 1976، بل في شهر سبتمبر/أيلول من العام ذاته، حين كشفت صحيفة «عَلْ همشمار» الصهيونية، عن أن «كيننغ» لم يقترح سلب الأرض، فقط، بل، اقترح، أيضاً، اتخاذ إجراءات سياسية واقتصادية واجتماعية وتعليمية فاشية لمعاملة «فلسطينيي 48»، وعن أنه أقر بفشل السياسة «الإسرائيلية» في دمجهم، ورأى أن المعركة الديموغرافية هي «قوة محركة، بين العرب واليهود، وأن تزايد العرب السكاني، وتكاثرهم، في الجليل يحمل في طياته خطراً على سيطرتنا على المنطقة».بالمقابل، لخص ماير فلنر، أمين عام الحزب الشيوعي «الإسرائيلي»، آنذاك، عظمة هبة «يوم الأرض» بالقول: «إن نضال الجماهير العربية، منذ سنين طويلة ضد سياسة التمييز والقمع القومي، قد وصل إلى ذروته في العام 1976». وهذا صحيح، فبتلك الهبة، المعمدة بالدم، والخالدة خلود الزيتون النامي بين مفاصل صخر جبال فلسطين، جرف فلسطينيو 48، إلى غير رجعة، كل الوعي الزائف عن إمكان التعايش بين المواطن والمستوطن، وبين المستعمِر والمستعمَر، وعن إمكان تذويب الهوية الوطنية والقومية الفلسطينية في إطار كيان استيطاني عنصري إقصائي إحلالي، من مقتضيات وجوده وأهدافه العدوان والتوسع، وبالتالي، توليد، وتجديد، مقاومته.فها هم فلسطينيو 48، (مثلاً)، بعد 68 عاماً من مساعي «الأسرلة» يقاومون، ويحبطون، تنفيذ مخطط «برافر» لتهويد النقب، ويتَحدون، في قرية العراقيب، باستمرار الصمود، ومثابرة إعادة البناء. أما المستوطن اليهودي، فيسكنه خوف دائم على مشروع المغامرة الكبرى المتمثلة بـ«دولة اليهود» على «أرض الميعاد»، ومن انكشاف كذبة أن هذه الأرض هي بلا شعب. هذا ناهيك عن رعبه من فتى، أو فتاة، يتخيل أن بيده، أو بيدها، سكيناً.هذا يعني أن العزيمة ذاتها، والإرادة ذاتها، والشجاعة ذاتها، (وإن اختلفت أهدافها المباشرة)، التي أسقطت مخطط «كيننغ»، سوف تسقط مخطط «برافر». فأهل سخنين وعرابة ودير حنا وكفر كنا والطيبة والنقب ومدن ساحل فلسطين وناصرة البشارة، ما زالوا صامدين على أرضهم، أرض فلسطين، التي طالما لفظت مستعمرين وغزاة كثر، جاسوا في ترابها عبثاً، وفي النهاية جروا أذيال خيبتهم ومضوا. أما سوائب المستوطنين اليهود التي يطلقها، اليوم، المهووسون بأساطير التلمود، وتعاليم جابوتنسكي، فهم لا يعدون سوى طارئ ينتظرون قراراً بانتهاء المهمة التاريخية للاستيطان، بانتهاء المصلحة الاستعمارية في هذه المنطقة، أو بالاتكاء على بديل آخر غير مكلف، «فالزرع والحصاد ليست عادة نسل المرابين والصيارفة والصاغة، إنهم مكرهون على هذه الأرض، ويقولون دائماً محمد يزرع».هذا يعني، أنه لئن كانت الأرض هي جذر الصراع القائم على الارتباط الروحي بين الإنسان والتراب والعرق، وهي كذلك بامتياز، فإن الغلبة في نهاية المطاف، تقدم الأمر أو تأخر، هي للسواعد التي تدق الفؤوس، وليس لمن يحولونها إلى قاعدة للصواريخ، ولمن ينشدون الحياة، وليس للباحثين عن الموت لهم، ولكل «أغيارهم». فلو قدِّر لنا أن نسأل «يسرائيل كيننغ» بعد أربعين عاماً عن العفريت الذي أخرجه، بوثيقته، من القمقم، ترى ماذا سيجيب الآن وهنا؟نجزم أنه سيردد ما قاله المستشار الأمني الصهيوني شموئيل توليدانو، في تعليقه على هبة «يوم الأرض»: «هؤلاء العرب الذين عاشوا بيننا، وكنا نريدهم حطابين وسقائي ماء، لم يعودوا كذلك بل أثبتوا أنهم عرب وفلسطينيون أيضاً». ولو أن هذا الصهيوني الاستعلائي ظل حياً لمات غيظاً، حين يعلم أن الذين حسموا، في يوم الأرض، جدل الهوية والانتماء للشعب الفلسطيني، باتوا، اليوم، مليوناً ونصف المليون، ويلعبون، من موقع الشريك، لا المساند، دوراً مركزياً في النضال الوطني الأشمل.الصحفي علي جرادات٣-ابريل-٢٠١٦موقع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين